Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog

أيام فى هرجيسا

10 Janvier 2015

أيام فى هرجيسا

د. حمدى عبدالرحمن
قديما أطلق عليها المصريون القدماء أرض البخور والألهة. إنها أرض الصومال أو بلاد بونت القديمة التى عرفت التوحيد عقيدة منذ أخناتون وجاءها الإسلام نورا قبل يثرب عن طريق تجار زيلع. وعلى الرغم من هذا العمق الحضارى والجذور التاريخية للأمة الصومالية فإنها عانت من آثار فشل عمليات بناء الدولة الحديثة إما بفعل الإستعمار تارة أو بفعل غياب الحكم الصالح تارة أخرى. ومنذ انهيار الدولة عام 1991 عقب سقوط نظام محمد سياد برى أضحت الصومال فى الإدراك العربى مرادفا للفوضى والحرب الأهلية. لقد أضحت أزمة الصومال وكأنها عبء لا يقوى العرب على تحمله فتركوها تهوى فى ادراكهم لتغمرها مياه المحيط العميقة. ومع ذلك فإن الخبرة الصومالية تكشف عن وجه آخر يعبر عن النجاح فى بناء مؤسسات الدولة كما حدث فى تجربة صوماليلاند (إقليم شمال الصومال الذى كان خاضعا للاستعمار البريطاني) والتى أعلنت استقلالها من جانب واحد منذ نحو أربعة وعشرين عاما. ونظرا لمتابعتى المستمرة للشأن الصومالى ولاسيما تجربة إقليم الشمال فى الحوار الوطنى وبناء المؤسسات الوطنية فقد تلقيت دعوات كثيرة للزيارة على أساس المثل القائل: ليس من رأى كمن سمع. وبالفعل قررت تلبية دعوة جامعة هرجيسا فى الشمال لإلقاء محاضرات عامة والتعرف على تجربتهم عن كثب. ورغم قصر مدة الزيارة التى جاءت فى أواخر أيام العام المنصرم فإنها تركت أثرا كبيرا فى النفس وطرحت بإلحاح أسئلة التراجع العربى واختراق مناطق الأطراف فى النظام الإقليمى العربي. على أن الذى يعنينا فى هذا المقام هو الإجابة على السؤال لماذا نجحت صوماليلاند التى أضحت حاضرتها هرجيسا من أكثر مدن شرق أفريقيا أمنا واستقرارا بينما دخل الجنوب الصومالى فى دوامة التدافع الدولى والإقليمى واكتوى بنيران الصراعات العشائرية والطائفية؟ وما هو المطلوب مصريا وعربيا؟
ثمة ثلاثة ملامح مميزة لتجربة صوماليلاند كما يقول النائب محمود أوبسى الذى شرفت بمصاحبته طوال فترة الزيارة: أولا عدم تدخل أطراف خارجية أو القبول باملاء شروط من أى طرف ثالث. فقد سعت الحركة الوطنية الصومالية التى سيطرت على كامل الإقليم بعد الإطاحة بنظام سياد برى بالتعاون مع زعماء القبائل وقيادات المجتمع المدنى إلى عقد مؤتمرات وطنية للتوافق والمصالحة. انعقد المؤتمر العام الأول للمصالحة
أما الملمح الثانى لتجربة صوماليلاند فيتمثل فى القبول بمبدأ التنازلات السياسية والإيمان بمقولة أنه لا غالب ولا مغلوب فى المباراة السياسية. فقد قبلت قبيلة الاسحق التى تكاد تشكل الكتلة الأكبر وتسيطر على إقليم الوسط مبدا اقتسام السلطة مع قبائل العيسى فى الغرب وقبائل الدارود فى الشرق وبعض الأقليات الأخرى. وعندما تعرض النظام السياسى الوليد لهزة عنيفة عقب وفاة الرئيس المؤسس محمد ابراهيم عقال تم الإتفاق على تولى نائبه طاهر ريالى كاهن الرئاسة رغم أنه ينتمى إلى قبائل الأقلية، وهو ما يعبر عن انتقال سلمى ودستورى للسلطة. ويجتاز النظام أزمة أخرى فى انتخابات 2003 حينما فاز الرئيس ريالى على منافسه الرئيس الحالى أحمد محمد محمود سيلانيو بفارق ضئيل من الأصوات بلغ نحو تسعة وثمانين صوتا فقط فى انتخابات شهد المراقبون بنزاهتها وسلميتها. ويشير الملمح الثالث للتجربة إلى النجاح فى ادماج المكون الثقافى التقليدى فى عمليات التحول الديمقراطى حيث لعبت القبيلة دورا مهما فى عمليات التوافق والمصالحة واقتسام السلطة. ولعل ذلك هو أيضا الذى جنب الإقليم مشكلات التطرف الدينى حيث يغلب الإنتماء القبلى على التوجه الديني. ومن أبرز ما يلفت الإنتباه فى ظل حالة عدم الإعتراف الدولى والتجاهل العربى نجاح سلطات هرجيسا فى بناء المؤسسات حيث توجد بها عملة وطنية ومطار دولى وبنك مركزى وجميع الإدارات الحكومية الفاعلة. ومن أطرف ما رأيت هو استخدام نظام الدفع وتحويل الأموال عن طريق الهاتف المحمول، وهى خدمة ليست شائعة فى أغلب الدول العربية. ويستطيع الزائر أيضا أن يتجول بحرية وأمان فى الشوارع والأسواق، بل إنك تجد تجار العملة وأمامهم أكوام من الأوراق المالية يفترشون الأرض صباحا ومساء دون خوف استعدادا لعملية التبادل. ولعل ذلك هو ما دفع البعض إلى وصف هرجيسا بأنها واحة الأمان فى شرق افريقيا. على أن الجانب المحزن والمثير للدهشة هنا هو تضاءل التأثير العربى وتراجع الثقافة العربية فى مقابل عمليات العودة إلى الجذور الصومالية والتغريب. لقد وجدت مقر البعثة التعليمية المصرية فى منطقة المجمع الحكومى شاهدا على حكمة عصر مضى فى السياسة المصرية.
فالمبنى الذى يحتوى على آلاف الكتب لا يزال مغلقا والوجود المصرى يكاد يقتصر على قلة من المدرسين والأطباء وغيرهم من العاملين فى مجال الإغاثة الإنسانية. لقد كان الحنين لعودة الدور المصرى واضحا فى أحاديث كل من قابلتهم فى الجامعة والبرلمان ووزارة الخارجية وغيرها من الإدارات الحكومية وحتى كلام الناس البسطاء الذين قابلتهم. أحسب أنه قد آن الأوان لتغيير النمط الموروث فى توجهات مصر الخارجية تجاه محيطها الاستراتيجى بما يمكننا من الإستفادة من مصادر قوتنا الناعمة. ألم تكن كل من النوبة والصومال بمثابة الجذور للدولة المصرية القديمة، وهو ما جعلها أحد ركائز مكونات الوجود الحضارى المصري؟ واذا كانت زيارة الرئيس الصومالى حسن شيخ محمود للقاهرة أواخر ديسمبر الماضى تشكل علامة تحول فى السلوك المصرى تجاه القضية الصومالية فإن المطلوب هو دعوة الرئيس سيلانيو للقاهرة بحيث تكون مصر هى ركيزة البحث عن آفاق المستقبل بالنسبة للإخوة الصوماليين، فثمة صيغ كثيرة للتكامل يمكن أن تحقق آمال الجميع فى الوحدة والإستقرار. إن سياسة التجاهل وعدم الإهتمام بما يحدث فى أرض الصومال أضحت ترفا لا تقدر عليه مصر الناهضة.

الاهرام اليومي

Commenter cet article